1

Google

الجمعة، 16 ديسمبر 2011

أقاصيص من زمن موجع: رغيف وعدس

نهضت ست النفر من السرير بصعوبة فتأوهت مفاصل السرير راحةً وأجابتها مفاصل ست النفر متأوهةً تعباً. دخلت ست النفر إلى الراكوبة المبنية من الحصير والتي يقبع في زاويتها كانون تربع عليه كنتوش ينفث كثيراً من البخار من تحت غطائه.
بصعوبة أكثر جلست ست النفر على البمبر المجاور للكانون وبخرقة صغيرة أمسكت غطاء الكنتوش وأزاحته فرأت أن حبات العدس قد مال لونها إلى الإصفرار مما يعني أنها أوشكت أن تستوي. كان ذلك آخر ما تبقى من كيس العدس.
نادت ست النفر على ابنها عبد الله الذي هو آخر من بقي معها فقد تشتت البنات الأربع في جهات الأرض. زوجها سافر منذ أربعة أيام لزيارة والده المريض ولم يعد حتى الآن. نفد كل ما تركه زوجها لهم لكنه أوصاهم إن احتاجوا شيئاً أن يذهبوا إلى الكباشي صاحب الدكان المقابل على الناحية الأخرى من الطريق.
نادت عبد الله مرةً أخرى فخرج من الغرفة متسائلاً فقالت له:
            -         تعال يا عبد الله أمش جيب الرغيف، الملاح قّرب ،،
طنطن عبد الله ورد:
            -         وين القروش؟
            -         ما في قروش يا ولدي، أمش لي كباشي؟
            -         يُمة دكان كباشي بعيد ياخي، شوفي بتلقي ليك جنيه
            -         ما في وحاتك يا ولدي، أمش ساي،
أدخل عبد الله قدميه المغبرتين في السفنجة المتآكلة وخرج من باب الشارع فأصدر الباب صريراً مزعجاً وهو يرتد منغلقاً.
استدارت ست النفر ملتفتةً إلى الكنتوش الذي ما زال ينفث بخاره مثل قاطرة قديمة. كانت تحاول أن تتوقع ما الذي أخر زوجها عند والده، ترى هل مات والده؟ أم أنه في طريق عودته وجد عملاً ما يرتزق منه.
وهي في خضم هذه الأفكار سمعت باب الحوش يقرع بعنف كأن شخصاً يود ان يقتلعه. سمعت من وراء الباب صوتاً يقول:
          -         يا ست النفر، ولدك عبد الله ...
نهضت ست النفر بسرعة لا تشبهها وجرّت توبها وراءها فاشتبك بطرف الكانون لينقلب الكانون وكنتوش العدس على الأرض ...
وصلت ست النفر إلى الشارع وسؤال معلق على شفتيها "عبد الله مالو ..". أشار أحد الناس فنظرت فإذا جمع مهول من الناس. ركضت نحوهم وزحزحتهم وإذ بعبد الله يرقد على الأسفلت مثل الخرقة التي كانت تمسك بها غطاء الكنتوش ... والركشة التي ضربته قد انقلبت على جانبها مثل وحش أكل واستلقى يجتر ما أكل ...
في راكوبة الحصير في البيت كانت جماعة من النمل قد تحلقت حول العدس المسكوب على الأرض وبدأت تنقل حباته إلى جحرها ..
في الشارع كان دم عبد الله قد تحول إلى بقعة حمراء داكنة تحيط بها دائرة رسمها عسكري بقطعة من الطوب ..
وفي غرفة متسخة ومزدحمة في المستشفى كانت ست النفر تجثو على ركبتيها ورأسها مدفون في اللحاف الذي يرقد عليه عبد الله .. كان جسمها يهتز ... وتوبها يمتد وراءها على البلاط ..
في الممر أمام تلك الغرفة سُمع صوتٌ يقول "يا أخوانا طلعو جنازة الولد دة خلو أهلو يجو يشيليهو .. عندنا حالة طارئة دخلت هسي .."