1

Google

الخميس، 14 يناير 2010

أحلام مهدرة


عندما لمعت تلك الفكرة في رأسه قفز مثل من لسعته (رتيلا). كان وقتها يجلس على الرصيف مثل بلد بلا وجيع ، لم يكن يفكر في شيء محدد وإنما كان يقلب دفتر همومه صفحة صفحة ويتطلع فيه سطراً سطراً عله يجد رابطا بين تلك المشاكل التي تحاصره. حتى تلك الفكرة التي طرقت ذهنه لم يكن موضوعها ضمن الهموم التي كان يستعرضها. 

عندما قفز واقفا كان هنالك شخص آخر يجلس على مقربة منه مطرقاً إلى الأرض، رفع الرجل نظره بتعب، تطلع فيه برخاوة ثم رد عينيه كأنه تعب من رفع جفنيه إلى الأعلى ، أما هو فدون أن ينظر إلى أسفل بدأ يبحث عن فردة حذائه في الأرض مُمِرّاً قدمه على المكان الذي كان يجلس فيه وعندما عثر عليها امتطاها وتحرك وفي رأسه تلتمع بعض الأشياء التي جلتها تلك الفكرة.
انسلّ من وسط تلك الزحمة راجياً أن يصل إلى مقصده بأسرع ما يمكن ، تعمد أن يسلك طرقات فرعية تفادياً للزحام وطمعاً في تقليب بعض الأفكار في رأسه. كانت قدماه تسيران بطريقة آلية والرأس طاحونة تدور وتدور وبين الفينة والأخرى يغمغم ببعض الكلمات غير المفهومة . تارةً تسمعه يقول "سبحان الله" وتارة أخرى "أبو الكلاب الزرق" . كان يتساءل بينه وبين نفسه من أين لماء النيل كل هذه القدرات . وإذا كان الماء قادراً على أن يغسل الغبار والعرق والأوساخ عن الأجساد ، فمن أين له القدرة على أن يغسل التعب و(حراق الروح) و(الضبلنة). من أين للماء كل هذا السحر الخلاب الذي يتبدل نوعاً وكماً بين الليل والنهار. 
زعقت مكابح سيارةٍ على أحد الطرقات القريبة فاندلق الماء من أفكاره وحلّ محله الإنسان الذي صنع السيارة ومكابحها وهبطت المدنيّة بكل لغطها على أعصابه فسمع صوتاً طفولياً يخرج من المذياع "بابا ما أبدع هذا المعجون المنقط " فيجيبه صوت أجش " هذا (خردل تو) بخلاصة اللالوب " . سبحانك ربي جمعت بين الخردل واللالوب كما جمعت بين الكاكي والسكروتة.
ما بال المسافة أصبحت طويلة هكذا ، كنت أمشيها في أقل من هذا الوقت ، هل أنا تَعِبٌ لهذا الحد؟ لالا، لا أظن ، لعلها اللهفة فقط جعلت المشوار يبدو أطول مما هو في الواقع. إذن فالمسألة مسألة احساس بالوقت والمسافة لا غير ، الوقت هو الوقت والمسافة هي المسافة إنما تغير احساسك بهما. ترى هل سيأتي يوم يتغير فيه إحساسك تجاه ماء النيل ، تجاه تلك اللبخة الضخمة التي تراها في النهار القائظ مستودعاً للظل الرحيم وتراها في الليل رابضة مثل البعاتي أو ود أم بعلو. ضحك بأعلى صوته سراً حين تذكر ود أم بعلو وكيف أنه كان يخشاه في ليالي الخريف المظلمة ويقمع رغبات مثانته خوف الخروج في الظلام.
لفحت أنفه رائحة طفحت من بعض المجاري المفتوحة ، تذكر مديره في الإدارة التي كان يعمل بها وفصل منها لغير ما صالح. مرّ ذلك المدير في رأسه بكلماته الرخوة وتفكيره المسطح ، كان شخصاً لزجاً وقذراً مثل جدران الحمامات العامة في سوق شعبي. ورغم أسفه على ضياع وظيفتة في ذلك الوقت إلا أنه كان يشعر بقدر من الراحة لأنه تخلص من ذلك الشخص الذي يناكف من أجل المناكفة.
كاد ينكفئ على وجهه عندما تعثر في حجر منغرزٍ في الأرض، نظر إلى حذائه بعطف شديد ، خشي أن يكون قد أصابه الضرر فتوقف ليلقي عليه نظرة وبعد أن اطمأن واصل سيره وهو يعظ نفسه بضرورة الانتباه ويحاول استحضار العديد من العبارات المكررة مثل " في العجلة الندامة " و " قدِّر لرجلك قبل الخطو ... " و ... 
آآآآآآه لقد وصلت أخيراً ، إنها ضفة النيل والشمس قد لامست الأفق محمرةً ليست كالدمعة الحمراء وإنما مثل الشمس عندما تميل للمغيب. عَبَر الطريق الفاصل بينه وبين النيل وتدحرج بين أكوام من مخلفات البناء التي تراكمت على الشاطئ شاقاً طريقه صوب الماء ، أحس بطعم الماء على جلده وهو يتجه نحوه وشعر بقدر كبير من الاسترخاء والراحة.
عندما أصبح على حافة الماء خلع نعليه ووضعهما جانبا ثم خلع قميصه واختار له مكاناً لا يصله البلل . تحركت نسمة رفيقة في الجو فارتعش قلبه مثل عصفور في بدايات (الرُشاش) ودون أن يشعر وجد نفسه يدندن لحناً فرايحياً . استرسل مع الأغنية فقرر أن يغنيها كلها قبل أن ينزل إلى الماء ، لكن شوقه للماء لا يقاوم ، خلع البنطلون ونزل إلى الماء حتى منتصف ساقيه ، لم يتمالك نفسه ، وجد نفسه يرفع صوته بالغناء شيئاً فشيئاً حتى خيل إليه أن هذا الصوت ليس صوته وإنما لأحد الجن الذين يخرجون مع الغروب كما كانت تحدثه جدته ، زاد صوته ارتفاعاً واللحن يزداد حلاوةً ودفئاً وحميميةً والماء الذي يغمره حتى منتصف الساقين يزداد تغلغلاً في مسام الجسد والروح.
فجأة من بين طبقات صوته وصل إلى أذنه صوت لا يعرفه ، صوت أجش واستعلائي ، " إنت يا زول بتعمل في شنو؟ " ، " معاك منو ؟ " ، " بتكورك مالك نص الليل ؟ " ، انهمرت الأسئلة غير المرغوب فيها ، فجةً ووقحة وعدوانية تبعث الضيق في النفس وتثير الرغبة في الشجار. حاول أن يتجاهل ذلك الصوت ، لكن ذلك لم يكن ممكناً إذ أن صاحب الصوت كان يتحرك ناحيته 
"يا بشر إنت ، أنا بتكلم معاك " ، خرج من صمته
" معاي أنا ؟"
ردّ الصوت " ومال مع حبوبتي؟". 
أيقن آنئذ أن فكرة الاستحمام في النيل التي سار كل هذا المشوار لينفذها قد ضاعت منه. جر رجليه خارجاً من الماء وعندما خرج تماماً من الماء كان صاحب الصوت في وجهه ، ملابس من الكاكي تنم عن سلطة ما وحذاء أسود فاحم .
شن صاحب الصوت هجوماً جديداً ،
" وين البت الكانت معاك ؟"،
ردّ 
" بت شنو يا زول ، أنا جيت أستحم براي وماشي " ،
" بتنكر آآآ ، وديتا وين ، تعال هنا قريب شكلك كمان مسطول ، عيونك الصغار ديل " 
تساقطت عليه التهم كتلة لزجة شلت قدرته على التفكير أو رد الفعل ، شعر بالعجز الكامل جرجره صاحب الصوت دون أن يسمح له بأن يلبس قميصه ، جرجره مسافة طويلة حتى أوصله إلى القسم حيث سلمه إلى شرطي وقال له " بلاغ إزعاج عام " 
حشره الشرطي بين عدد من البشر لم يستطع أن يميز ملامحهم في تلك العتمة والمكان الضيق، شبك يديه على ساقيه ضاماً فخذيه إلى بطنه ووضع رأسه على ركبتيه وعاد به ذهنه إلى الماء والنيل واعترته (ضبلنة)ٌ نام على إثرها والبلاط الخشن يتعشى من إليتيه.

الأربعاء، 13 يناير 2010

هبوط إضطراري


تَسَاءَلْتُ بيني وبين نفسي ما الذي أتى بهذا الخواجة إلى هذه البقعة من العالم؟ ما ضره لو أنه بقي في دياره فمات هنالك بدلاً عن أن يموت في أرض لا يربطه بها رابط؟ ثم ما الذي دفعني إلى الإصرار عليه للحضور معي؟ وهل أكون قد تسببت في موته إن هوت هذه الطائرة؟ دارت في رأسي تلك الخواطر عندما ارتجت الطائرة واهتزت اهتزازا عنيفاً دون أن تكون لدينا أدنى فكرة عما يحدث فظن الكثيرون وأنا منهم أنها ستسقط وسنتحول إلى عنوان كبير في الصحف المحلية تسبقه الآية المعروفة من سورة البقرة.


كنت آنئذٍ أعمل في منظمة دولية تعنى بالشئون الثقافية وكنت كثير الترحال رغم أن مقر عملي كان في نيويورك. وكان هذا الأمريكي، جيرالد، زميلي في العمل وربطتني به صداقة فيها عمق إذ لمست فيه ما شدني إليه من شهامة وصدق وقدرة فائقة على تقبل الحقيقة حتى لو كانت تضرب مصلحته في الصميم.

كنت عندما يستبد بي الحنين إلى موطني ومسقط رأسي أروِّح عن نفسي بالحديث عن دياري وأهلي وكان جيرالد يبدي شغفاً غير مفتعل للاستماع إلى ما أقوله وكان في كثير من الأحيان يشير إلى رغبته في زيارة تلك المناطق مشيراً بلباقة إلى أنني قد شوّقته بتلك الحكايات لرؤية ذلك الجزء من العالم. كنت أحدثه عن تلك البلاد، كيف كانت في يوم من الأيام وكيف صارت وأحكي له عن التفاصيل الدقيقة لحياة الناس، أعمالهم وأنشطتهم الاجتماعية وقد كان شغوفاً بتلك التفاصيل وغالباً ما يستزيدني بالسؤال عن أشياء معينة في حياة الناس هناك.

عندما عزمت على التمتع بإجازتي طرحت على جيرالد فكرة أن يأتي معي واعتذر الرجل لكنني أحسست أن اعتذاره مدفوع برغبته في ألا يضايقني أو يثقل علي ولذلك فعلت كل ما بوسعي كي أقنعه أنني سأكون مسروراً لو أنه صحبني في هذه الإجازة وأنها ستكون فرصةً له ليرى جزءاً من العالم لم يره من قبل.

عندما ارتجت الطائرة لم نفهم ما حدث لعدة دقائق كانت أشبه بدهر. لم أتعود في جميع رحلاتي أن يحدث مثل هذا الاهتزاز دون أن يليه توضيح فوري من قمرة القيادة مطمئناً المسافرين على متن الرحلة. بعد تلك الدقائق الطويلة جاء صوت الطيار من مكبرات الصوت "نود أن نطمئن السادة المسافرين بأن ما حدث سببه الظروف الجوية السيئة وسوف نضطر للهبوط في مطار عَبُّودة الإقليمي". التفتَ إلى جيرالد سائلاً عن مطار عبُّودة وكان ذلك طبعه في استدراجي إلى الحديث فتواردت إلى ذهني العديد من الصور.

قلت لجيرالد أن عبودة كانت في يوم من الأيام قرية صغيرة بها مدرسة وشفخانة مبنيتان بالطوب والأسمنت وما عدا ذلك فإن جميع مبانيها من القش. تقع عبودة على الطريق المار من الشواك إلى ودالحليو وتمثل محطة هامة على ذلك الطريق البري غير المسفلت تقف عندها اللوريات المحملة بالركاب والبضائع للتفريغ والتحميل. كانت تلك اللوريات تحمل ما لا يخطر على بال فتجد فيها البشر والأغنام والدجاج وجوالات الذرة والسكر والبن وكراتين البضائع المختلفة والحطب ومواد البناء مثل ألواح الزنك وأكياس الأسمنت وغير ذلك. ويقع في المنطقة المحيطة بعبودة عدد من القرى مثل "أم علي" و "مَيْلَقا" و "كُبُّو قُرْمُو" التي تعتبر عبودة مركزا لها.

كان ذلك منذ زمن ليس ببعيد. أما الآن فإن هذه الصورة أصبحت من الماضي الغابر وتغيرت المنطقة بحيث أنّ من لم يكن يعرفها من قبل لا يمكن له أن يتخيل صورتها مهما كانت قدرة الراوي على التصوير.

عند إكتشاف المخزون الضخم من البوكسيت (خام الألمونيوم) في ذلك الجزء من البلاد دبت الحركة في المنطقة مثل مريض تعافى فجأة بمعجزة. تغير وجه الأرض وتغيرت حياة الناس وتغير كل شيء. اختفت تلك اللوريات المتهالكة وحلت محلها الشاحنات العملاقة والثلاجات المتحركة وخطوط السكة الحديد التي تنقل كميات كبيرة من البضائع. انتشرت شبكة الطرق المسفلتة وغطت المنطقة منهيةً بذلك عهداً كان فيه السفر جهنم نفسها وليس قطعة منها.

كان الطريق الترابي الممتد من الشواك إلى ودالحليو رحلةً من العذاب في كل الفصول. في الصيف كان الطريق مترباً يثور فيه الغبار مع حركة السيارات وتشعر أن السيارة تقفز على الطريق بسبب الحفر الكثيرة وتتمايل بسبب عدم استواء الطريق في معظم أجزائه فيتأرجح الركاب داخل صندوق اللوري وهم متمسكون بالحديد الحامي. وتفعل الشمس فعلها بأشعتها الحارقة التي تسلطها على ركاب اللوري المكشوف فيتصبب العرق وتزيد عصبية الناس وقابليتهم للشجار.

أما في الخريف فإن الحال يختلف مع تلك التربة الطينية (البادوبة) التي تتميز بها المنطقة حيث أن الطريق يتعرج بسبب مياه الأمطار التي تسده في بعض المواضع وتجعل السير فيه مستحيلاً. وفي مثل هذا الوقت فإن الطريق ينحرف بعد قرية عبودة ليدخل في منطقة تغلب عليها المرتفعات المنخفضة (الكَرَب) وتربتها تسمى (العزَازة) مما يجعل حركة اللوري أشبه بحركة مركب في بحر متلاطم الأمواج. وعندما يتعرج الطريق يخرج عن مساره مما يجعله يمر بين أشجار الكِتِرْ والطلح التي تُعمِل أغصانها الشائكة في ملابس الركاب وجلودهم. وفي كثير من الأحيان يتعذر على اللوري الاستمرار في التعامل مع الطريق فيضطر الركاب إلى النزول أو حتى إلى تخفيف حمولة اللوري.

ومع تغير مسار الطريق يفقد بعض الركاب ميزة مرور اللوري بقراهم فيضطرون إلى النزول في مواضع بعيدة لتكملة ما تبقى من الرحلة، طال أو قَصُر، سيراً على الأقدام.

كان جيرالد يستمع باهتمام بالغ وكانت الطائرة في هذه اللحظة قد بدأت تدور كأنها عائدة من حيث أتت. نظر جيرالد من النافذة الصغيرة فرأي خلال الغبش الناتج عن الغبار أضواءاً وأبنيةً لا تبدو مثل بقية المباني في المنطقة فبادرني بالسؤال عن تلك المباني. نظرت من النافذة وابتسمت وأجبته أن هذا "مجمع ميلقا للصناعات الكيماوية".

مرت إحدى المضيفات بجانبي فسألتها لماذا دارت الطائرة تلك الدورة فأجابت بأننا قد تجاوزنا مطار عبودة بسبب ارتفاع الطائرة ولذلك دارت الطائرة للعودة إلى المطار والهبوط بعد تخفيض ارتفاعها تدريجياً.

قلت محدثاً جيرالد أن ميلقا، تلك القرية التي كانت نسياً منسياً تغيرت كلياً. فقد كانت ميلقا في يوم من الأيام عددا من البيوت البائسة التي لا تتجاوز قبضة اليد وتفتقر إلى أبسط مقومات الحياة الإنسانية. لم تكن هنالك عيادة وإنما كان هنالك ممرض غير مرخص يمر على المنطقة بين الفينة والأخرى يحمل شنطة بلاستيكية مهترئة مليئة بأدوية مثل حبوب وحقن الكلوروكين للملاريا وبعض المراهم للجروح يبيعها بأسعار خيالية. ولم تكن هنالك مدرسة ومن رغب في التعليم فعليه أن ينتقل إلى عبودة بما يتضمنه ذلك من مشاق عدة. أما اللواري المسافرة من وإلى ودالحليو فلا تمر بميلقا إلا لماماً.

بدأت الطائرة في الهبوط وعندما نظرت من النافذة بدت لي أضواء مدرج المطار باهتة في عتمة الغبار أما أضواء مدينة عبودة فقد كانت مثل الجمر الذي تغطيه طبقة خفيفة من الرماد فيتوهج في بعض المواضع ويخبو في أخرى.

هذا هو مطار عبودة الإقليمي الذي يقوم على مساحة شاسعة من الأرض تغطيها أقسامه المختلفة التي تشمل صالات القدوم والمغادرة والصالات الخاصة وخدمات الشحن الجوي والمجمعات السكنية لموظفي المطار. عندما هبطنا في المطار أعلنت المضيفة عبر مكبر الصوت أنه غير مسموح للركاب بمغادرة المطار حيث أن الرحلة يمكن أن تقلع في أي لحظة إذا ما تحسنت الظروف الجوية.

سألني جيرالد عن المسافة المتبقية للوصول إلى ودالحليو فقلت له أن المسافة قريبة جداً فنظر إلي وابتسم ثم أردف باقتراح أن نكمل ما تبقى من الرحلة عن طريق أيٍ من وسائل السفر البرية. راقت لي الفكرة خصوصاً وأن هنالك أكثر من خيار منها القطار العادي والقطار الإكسبرس الكهربائي والبصات العادية إضافةً إلى سيارات الأجرة الخاصة. وعندما طرحت عليه تلك الخيارات قال لي أنه يفضل سيارات الأجرة الخاصة حيث أنها تتيح له مشاهدة ما حوله بحرّية إضافةً إلى إمكانية التوقف في أي لحظة.

أكملنا إجراءات تخلفنا عن الرحلة بسرعة حيث أن ذلك الإجراء بسيط للغاية كما أن الموظف المسئول عن ذلك كان متعاوناً جداً وقد عرفت من الكلمات القليلة التي تبادلتها معه أنه من أبناء مدينة عبودة.

استأجرنا سيارة مريحة واسعة وبدأنا رحلتنا التي لا تزيد على ثلث الساعة وطلبنا من السائق أن لا يسرع كثيراً حيث أننا نرغب في رؤية معالم الطريق واستكشافه.

عندما خرجت السيارة من مدينة عبودة كان جيرالد صامتاً ولعله عاد بخياله إلى نيويورك، مما أعطاني فرصةً للانغماس في سيل من الذكريات. مرت السيارة بخور صغير فتذكرت أنني كنت مسافراً يوماً على متن لوري من نوع انقرض اسمه (التيبر). وكان صاحبه يوسف أبو حِجِل من أبناء الشواك. كنت عائداً من الشواك التي كنت أدرس في مدرستها المتوسطة. وقد كان المطر غزيراً في ذلك الموسم وعندما وصلنا هذا الخور انغرزت إطارات اللوري في الوحل وتعذر خروجه رغم المناورات المتعددة التي قام بها السائق. وأخيراً هبط السائق وطلب من الركاب النزول لتخفيف الحمولة ومساعدته في جلب بعض أغصان الأشجار الجافة لوضعها تحت الإطارات.

عندما أشرفنا على ودالحليو التفتَ إلىّ جيرالد وفي عينيه نظرة معتذرة عن مقاطعته لأفكاري وسألني عن مبني يقوم على منطقة مرتفعة في أقصى غرب مدينة ودالحليو وفيه عدد من الأبراج العالية والأطباق الكبيرة. نظرت في الاتجاه الذي أشار إليه وقلت له أن هذا المبنى هو محطة دار الحِلّة للأقمار الصناعية.

وأوضحت لجيرالد أن دار الحلة هي الموقع الأصلي لقرية ودالحليو حيث تأسست هناك على منطقة مرتفعة ويبدو أن مؤسسيها رأوا في ما بعد أن الموقع ليس به مساحة مسطحة كافية لتَوسُّع القرية فانتقلوا إلى الموقع الذي تقوم عليه مدينة ودالحليو الحالية. وظلت دار الحلة مع ذلك مأهولة بعدد قليل من السكان لم يَرُقْ لهم أمر الإنتقال إلى الموقع الجديد.

وبعد إزدهار المنطقة تمت تسوية مساحة واسعة من موقع دار الحلة وأُنشأت فيها محطة الأقمار الصناعية وتطورت المنطقة واتسعت حتى التحمت مع مدينة ودالحليو وأصبحت جزءاً منها فعاد الفرع إلى أصله.

وصلت بنا السيارة إلى الميناء البري لمدينة ودالحليو الذي يمثل تجمعاً لكل وسائل النقل البري ويقع عند مدخل المدينة من الناحية الشمالية وحملتنا سيارة أجرة صغيرة إلى فندق باسلام في وسط المدينة حيث قمنا بالحجز لديهم عن طريق الإنترنت من مطار مدينة عبودة. كان الجناح الذي نزلنا فيه في الفندق مريحاً وكان ذلك أمراً متوقعاً إذ أن شركة ودالعاقب للفندقة وخدمات الضيافة وهي الشركة الماللكة للفندق، تتمتع بموارد ضخمة وإدارة متميزة مما جعل الفندق يقفز خلال عشرة أعوام من تأسيسه إلى مصاف سلاسل الفنادق العالمية فئة الخمس نجوم وأثبت وجوده في عدد من كبريات المدن في العالم. سألت جيرالد عما إذا كانت لديه الرغبة ليبدأ جولته في المدينة هذا المساء فقال أنه متشوق إلى ذلك لكنه لن يفعل ويفضل أن يرتاح في ما تبقى من هذا الليل ووافق ذلك هوىً في نفسي إذ أنني كنت أشعر ببعض التعب فدخلت غرفتي وأخذت حماماً بارداً وغرقت في نوم عميق.

عندما استيقظ جيرالد في الصباح وجدني جالساً أمام التلفاز أشاهد البرامج التي تبثها قناة ودالحليو السياحية وقد أعجب جيرالد كثيراً بتلك البرامج وجودة تصميمها مما حفزه أكثر على زيارة الكثير من المواقع التي شاهدناها على الشاشة. تناولنا إفطاراً خفيفاً ونزلنا لنأخذ السيارة التي استأجرناها من شركة أبو صلاح لتأجير السيارات. لم يكن وسط المدينة مزدحماً بالسيارات مما أثار استغراب جيرالد فأوضحت له أن شبكة الطرق والجسور في هذه المدينة تم تصميمها بواسطة أكبر شركة عالمية متخصصة في هذا المجال واضعةً في الاعتبار توفير العديد من المسارات الرئيسية والجانبية التي تجنب المنطقة الاختناقات المرورية. وتساهم شبكة قطار الأنفاق الحديثة التي تغطي المدينة بكاملها في تخفيف الضغط على الطرق.

أخذْنا الطريق الدائري قاصدين جنوب غرب المدينة حتى وصلنا إلى خزان برناوي وهو سد ضخم أقيم في هذا الموقع لتوليد الطاقة الكهربائية من مياه نهر سيتيت ولتوفير المياه للري ويقابله سد آخر على نهر عطبرة. وتستخدم مياه السدين معاً لري المنطقة الواقعة بين النهرين والتي تحولت إلى مزرعة كبيرة لأشجار السنط تملكها شركة حسين العالمية للأدوية والمستحضرات الطبية والتي تستخدم إنتاج هذه الأشجار من القرض في إنتاج العديد من أنواع الأدوية. وقد ازدهرت أعمال هذه الشركة مع زيادة الوعي بأضرار الأدوية الكيماوية والتوجه نحو استخدام الأدوية المصنّعة من المواد الطبيعية مثل القرض والكركدي والسنامكّة والحرجل.

توقفنا عند مدخل السد حيث كان هنالك عدد من الكافتيريات على جانبي الجسر واقترحت على جيرالد أن نتناول مشروباً فوافق على ذلك. دخلنا إحدى الكافتيريات وجلسنا على إحدى الطاولات. كانت أرضية الكافتيريا من الزجاج المقوى بحيث تسمح للجالس بمشاهدة ماء النهر الذي يتدفق بعنف تحت الكافتيريا مثيراً كمية من الزبد. طلبت فنجاناً من القهوة وطلب جيرالد عصير الجوافة الطازج.

وعلى صوت خرير المياه حدثت جيرالد أن خزان برناوي أخذ اسمه من قرية صغيرة تقع على الضفة الأخرى من النهر. كان موقع الخزان قبل الطفرة الاقتصادية عبارة عن مُشْرَع يعبر منه الناس النهر. في الصيف يكون النهر شبه جاف فيعبره الناس على أقدامهم أما في فصل الأمطار حيث يفيض النهر فتستخدم المراكب التقليدية ذات المجدافين في عبور النهر والتي تحمل الناس وأمتعتهم وماشيتهم.

يونيو 2006م

الجمعة، 1 يناير 2010

موت شماشي ...


تزحزح في رقدته قليلاً إلى الوراء. فقد سقطت عليه نقطة من سائل، لعله أحد المارة لم يفلح في أن يجد له مقعداً في حافلة فآثر أن يريح مثانته على طرف هذا الجدول ثم يواصل العراك.


زاد من تكوره على نفسه عندما أحس لسعة البرد على ذراعيه وساقيه التي لم تفلح الملابس البالية في توفير الحماية لها ضد سياط البرد. شعر أيضاً بلسعة الجوع في أمعائه كأن في بطنه رحىً تفتك بها.

الجمعة الشتوية هم كبير، يحسب لها هو ورفاقه ألف حساب، لكنهم ليسوا كالنمل حتى يستطيعوا اكتناز مؤونة للجُمَع الشتوية. فالجمعة عطلة والناس تبقى في بيوتها تفادياً لزحمة المواصلات وإرهاق الميزانيات بمصروفات ترفيه وتظل الكافتيريات مغلِقةً أبوابها فلا يكون هنالك قوت والشتاء لئيم.

تذكر أمه التي افتقدها يوم أن قرر هو ورفاقه اقتحام المدينة لفك طلاسمها وسبر غموضها. ذلك اليوم كان يوماً فاصلاً في حياته حيث تغير كل شيء بدءاً من اسمه الذي كان "نجم الدين" فسماه رفاقه "ود الشيطان" بسبب المشاكل الكثيرة التي كان يجرها عليهم.

قبل أن يغادروا إلى المدينة كانوا يمثلون حرساً لمجموعة الأكواخ المتراصة في هامش المدينة مثل مريض منبوذ. لم يكونوا حرساً حقيقةً إنما جهاز إنذار مبكر، يجتمعون في مشارف الأكواخ يلعبون حتى إذا رأوا الخطر قادماً جروا في الأزقة الضيقة بين الأكواخ يصفقون ويصيحون : "بُمبة .. بمبة... بمبة". تراهم فتخاله جزءاً من لهوهم الطفولي البرئ لكنك إذ تسمع قرقعة الصفيح وقعقعة الأواني تدرك أن في الأمر سراً، وتدرك أن البمبة ليس سوى الشرطة فتهرع النسوة إلى اخفاء العرق وأدواته في مخابئ يعرفنها.

فقد أمه يوم أن قرر هو ورفاقه اقتحام المدينة، عند الظهر غادروا الأكواخ وعند العصر داهم البمبة الأكواخ ولا منذر، أُخد الجميع، أمه مشهود لها بالشراسة والجسارة، حاولت أن تقاوم، باغتها حذاء غليظ في جنبها وعندما سقطت قُذِف بها في العربة. الجميع عادوا إلى أكواخهم في الصباح إلا أمه.

تململ وانقلب على جنبه الآخر، لمست رجله أنف أحد الرفاق، لعله "بوكس" فطنطن صاحب الأنف ثم سكت.

استيقظ مبكراً في الصباح قبل كلاب السوق الضالة وقبل مستجدّي النعمة الذين اغتنوا فجأةً والذين يفتحون دكاكينهم باكراً متلهفين إلى الكسب ومتلذذين بالنظر إلى ما تكدس لديهم.

خرج من النفق فداهمه الهواء البارد، سأل نفسه كيف كانت ستكون الليلة الفائتة بهذا الزمهرير لو لم يجدوا هذا المصرف. انسد المصرف بالأوساخ في مكان ما. فأخذ يلفظ محتوياته القذرة على الأسفلت ، شكاه الناس إلى البلدية فهزت رأسها وانصرفت لتنظيف طريق آخر سيمر به وفد أجنبي. ظل هذا الجزء من النفق جافاً، رب ضارة نافعة.

حرّك جسمه حركات سريعة، هو قصير وربما لم يتجاوز الثانية عشرة، عندما كان في الأكواخ لم يكن يهمه البرد كثيراً. عندما تغرب الشمس ويبدأ الليل بالتسلل إلى العظام كان زوار الليل يبدأون التوافد على الأكواخ ، منهم من يبقى ساعة أو بضع ساعة يحمل مؤونته في بطنه ويخرج مترنحاً أو مستقيما حسب مقدرته الجسمانية وبعضهم يحمل مؤونته في كيس بلاستيكي محكم الربط يخبئه تحت إبطه أو تحت قميصه. هؤلاء الزوار كانوا يجدون لذة خفية في النظر إليه وهو يشرب العرق دون أن ترتجف عضلة في وجهه الصغير فكانوا يناولونه كأساً من حصتهم وينظرون إليه بأفواه مفغورة وهو يبلع الكأس في جرعة واحدة لا يبصق منه نقطة. كان العرق يشيع في جسمه قدراً كبيراً من الدفء.

مرّ بجانبه رجل مقطب الجبين فشم رائحة سيجارة. ومثل كلب داعبت أنفه رائحة طعام تبع الرجل عن كثب. تبعه حتى ألقى بعقب السيجارة فالتقطه ومصه في سرعة خوفاً من أن يشاركه الهواء في حرقه.

فتحت الكافتيريات أبوابها مثل صنارات تحمل طعماً للصيد. بدأ أكلة الساندوتشات يلجون إليها. يمم صوب إحداها ووقف قرب الباب يرقب رجلاً متوسط العمر قد وضع ملفاً مليئاً بالأوراق على الطاولة المثبتة على الحائط واتكأ إلى الملف بكوعه الأيسر ويده اليمنى تمسك بالساندوتش. نظر إليه بعيون غاض عنها صفاء الطفولة وحلّ محله إحمرار ينم عن حياة كدرة وإنسانية سليبة.

تُرى ما الذي سيجعل هذا الرجل يلقي بجزء كبير من الساندوتش. سيحدث ذلك في ثلاث حالات، الأولى أن يكون الرجل غير جائع كثيراً وبالتالي سيشبع سريعاً والثانية أن يكون ما يأكله عادة أجود من هذا الساندوتش وبالتالي سيجده كريهاً فيرمي الجزء الأكبر منه أما الحالة الثالثة فهي أن يكون الساندوتش غير محشو جيداً مما يجعله يلقي بالجزء غير المحشو.

استمر الرجل يقضم الساندوتش حتى أتى عليه وألحقه آخر جرعة من كوب العصير حتى يسهل مروره في بلعومه.

كان صوتٌ مخنثٌ يغني آنذاك في المذياع لأرض خضراء كثيرة الخيرات ليس بها جائع واحد. هل هي الجنة؟ أم أين تكون يا ترى؟؟

حلّت محل الرجل فتاة بدينة مزججة الحواجب. كانت تأكل ببطء كأنها في حالة تأمل وعندما بقي جزء صغير من الساندوتش قذفت به في السلة ونفضت يديها وبسرعة التقطه وتراجع إلى الوراء قليلاً كمن يتوقع ركلة.

عندما مالت الشمس نحو الغرب وامتد الظل باتجاه الشرق جلس مع رفاقه يلعبون بالحصى لعبةً يجلد الفائز فيها الخاسرين على ظهور أيديهم بعدِّ ما خسر كل منهم. نهض وتحرك مبتعداً

_ وين يا أبّا؟

ناداه "بوكس". أجاب دون إكتراث

_ ماشي أفوّر بنز

كانت هنالك بقايا حائط خرب إندسّ وراءها، للحظة كان يبين رأسه مطأطأً كأنه ينظر إلى شيء تحته ثم فجأة اختفى كأنما انشقت الأرض تحته. عاد بعد حين وهو يحك عجيزته فالليل أوشك أن يهبط والبعوض قد بدأ دورة عمله الليلية مبكراً.

بدأ البرد يسترق طريقه إلى العظام استراقاً في البدء، ثم صار يقتحمها مثل غازٍ تمكن من السيطرة على كل القلوع والتحصينات فصار يدخل الدور والبنايات مطمئناً.

جال مع رفاقه بين الكافتيريات المتراصة ونالوا منها ما استطاعوا من بقايا الطعام القليلة مع الكثير من المذلة ثم أووا إلى المصرف تحت الأرض مثل نمل خرافي برجلين.

داخل المصرف كان المكان ضيقاً وهواءٌ بارد يهب من فتحةٍ ما. تكدسوا فوق بعضهم ، البعض يبتغي شيئاً من الدفء وكبار السن لهم مآرب أخرى والليل الشتوي طويل وممل والجوع كافر. فجأة جاءته ركلة من رجل أحد النائمين، ثارت ثائرته فأمسك بالرِجل وعضها فصاح صاحب الرجل ودار العراك في الظلام. كان يقاتل خصماً لا يراه، قاتل بشراسة ووجه ضرباته في كل الاتجاهات وفجأة شعر بأنه يقاتل أكثر من شخص فقرر الخروج من المصرف. تسلل باتجاه فتحة المصرف وترك العراك دائراً ولعل كل واحد من المتقاتلين كان يظن أنه موجود. خرج من المصرف وجلس قريباً من الفتحة فسمع اللغط في الداخل. كان أحدهم يتساءل "وينو ود الشيطان، هو العمل الشنكبة دي؟". نهض وانصرف من المكان مغاضباً.

جاء محمد عامل المطبعة مبكراً في ذلك اليوم. كانت هنالك كروت زواج يجب عليه أن ينجزها باكراً حيث أن العريس شدد عليه أنه سيأتي لاستلامها في العاشرة صباحاً. جاء محمد طمعاً في أن يناله شيء من هذا العريس المبتهج المتلهف لاتمام زواجه.

كانت كومة الورق المتعدد الألوان التي تخلفت عن عمليات الطباعة والتغليف والتي أخرجها أول أمس من المطبعة ما زالت في مكانها ولم يتكرم عمال النظافة الذين يمرون بتراكتور بمقطورة بأخذها من مكانها. أخرج محمد سلسلة المفاتيح من جيبه وبدأ يعالج الأقفال الثلاثة واحداً تلو الآخر وعندما همّ بفتح القفل الأخير تجمدت يده على القفل كأنما صعقته كهرباء. رأى لوناً أحمر يصبغ بعض الأوراق وعندما أمعن النظر رأى أصابع صغيرة تبرز من بين الأوراق. دون أن يشعر وجد نفسه يركض نحو قسم الشرطة القريب من المطبعة.

رُفعت كومة الأوراق، كان ود الشيطان مكوماً وقد تهشم قفصه الصدري. بعد أن غادر المصرف دار في المنطقة بحثاً عن مكان يلتجئ إليه من البرد فلم يجد سوى كومة الأوراق هذه فاندس فيها. مرت سيارة في تلك الليلة وداست على الأوراق وود الشيطان تحتها فمرت على صدره. حملوه في جوال من الخيش وفي قسم الشرطة تم تدوين البلاغ ضد مجهول.

المكرَّب ...

قرأت رسالة أخينا المغيرة التي فرودها لي (من forward) الأستاذ محمد حسن خضر وهي رسالة ثرةٌ بالاستطراد المحبوب الذي يبدو أن أخانا المغيرة له فيه باع جدُّ طويل. وقد أورد الأخ المغيرة في مقدمة الرسالة اسم"المكرّب"، ولعل ذلك لقب شائع للأستاذ محمد حسن بين حفنة من خاصته، فلا علم لي به، لكن الكلمة استوقفتني فحرنتُ عندها "حرنة مكادي" وحرنة المكادي يعلمها الإخوة فهو إن حرن لا يتزحزح إلا أن تنسفه نسفاً بالديناميت وهذا المعنى أفضل عندي من قول الشاعر "بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه" ولو أنه قال "بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها وقوف مكادي ألهب السوطُ غاربه" لكان أجود عندي. والحرنة من سمات المكادي إذ أن الريفاوي الحُر لا يحرن.

إن كلمة "مكرب" كلمة متشعبة المعاني والاشتقاقات. فكلمة كَرَبَ تستخدم بمعنى "شد الشيء وربطه وحزمه" فتقول للفتي آمراً "أكرب الشوال سمح ما يتدفّق الدقيق" أي شدّ الرباط عليه، وتقول للصبي "يا ولد ما تنكرب" أي أسرع أو اجتهد وتقول داعياً على شخصٍ أثار حنقك "يكربك الحبن" أي يشتد عليك الحبن فيقطع نفسك (والحبن هو الخّراج أو الكيس الدهني). وتقول لمن وضع السرج على دابته "أكرب اللبّاب قوي مايقع بيك السرج"، واللباب هو شريط في الغالب من الجلد يشد به السرج إلى بطن الدابة ويكون بين السرج والبردعة وهو ما يعرف في العربية باسم "اللبب" حيث قال الحجاج في خطبته الشهيرة "ومن استرخى لببه ساء أدبه"، ويقابل اللباب "الضناب" وهو الحبل الذي يُشدّ به السرج إلى ذيل الدابة. وإذا ارتخى اللباب تأرجح السرج يمنةً ويسرةً وإذا ارتخى الضناب تحرك السرج أماماً وخلفاً وكلاهما أمر خطر على الراكب.

ومن اشتقاقات هذا الجذر تحضرني كلمة "الكَرّاب" وهو جزء من العنقريب تكون حباله سداةً دون لحمة ويستخدم في شد العنقريب إذا ما ارتخى. ويختص بالكراب عنقريب الحبل دون عنقريب القِد حيث أن عنقريب القِد لا كراب له وإذا ارتخى يوضع تحت الشمس فتشده الحرارة مثلما تشد الحكّامةُ دلوكتها أو شتمها بتعريضه للنار والجلد عموماً تشده النار!

والكرَبَة أعرف لها معنيين. فالكربة تعني الهضبة أو المكان المرتفع قليلاً وتجمع على "كَرَبْ" وهو عكس الأرض المستوية وتسمى مسايل الماء بينها "خيران". والكريبة قرية سودانية معروفة ولعلها تقوم على أو بجوار تلة صغيرة. أما الكربة الأخرى فهي حشرة أظنها من العنكبوتيات إذ أنها تشبه العنكبوت كثيراً وهي صفراء اللون ذات زغب ولها كلابات في مقدم رأسها وأكثر ما كنت أراها في بداية فصل الخريف حيث كنا نأخذ الماء من الأماكن المنخفضة بعلب الصلصة ونصبه في شقوق الأرض فتخرج الكربة مذعورة فنجري نحن مذعورين أكثر منها. والسيارة المتهالكة يقال لها تهكماً "كربة" و"هكرة" و "قرمبعة". والكربة أيضاً سيارة كانت تستخدمها إدارة وقاية النباتات في رش الجمكسين (أو الجبكسين) وربما سميت كربة لقدرتها على التعامل مع المناطق الوعرة وتسلق المرتفعات.

و"الكُرُبّات" هي الكنجالات أو الضحاكات أو الشِرْتِيت وتعني عند الشماشة ومن غزل غزلهم "القروش". وقد تخصص كلمة الكُربات لما يتبقى من القروش فإن أرسلت إبنك إلى الدكان وأعطيته ألفاً ليبيع غرضاً بتسعمئة وخمسين ولم يرد لك الباقي فيكون "عمل كربات خمسين" ولعله ابتاع بها سجارةً برنجية.

وإذا قلت "كرْبَتَ الجمل" فإنه سار خبباً ويسمى هذا المشي "كربتة وكربتيت" ومن ذلك قول الشاعر يصف بؤس حاله:

يوماً كربتيت ويوماً عشانا ربيت
ويوماً نكضم التابا وعليها نبيت

والتابا هي التمباك أو السعوط أو ودعماري لمن لا يعلمون. أما الربيت فهو اللحم يُنضَج في شحم الذبيحة الذي يستخرج منه الودك فيكون اللحم أقرب إلى الصلابة (مقرمشاً بلغة العصر) مثل ما يتبقى في قعر الصاج في أمسية يوم من أيام عيد الأضحى. وقد خبرت الربيت كثيراً إذ أن والدي، وسّده الله الباردة، كان جزاراً فكنا نأتي بشحم الضأن ونذيبه بالنار في البيت ليصير ودكاً نبيعه وكانت قطع اللحم الصغيرة العالقة في الشحم تخرج في نهاية المطاف ربيتاً نشتجر عليه مثل الجراء رغم كثرة غيره من اللحم.

أما كلمة "كرْبَنَ" فهي تعني أغضب والصفة منها "مكربَن" أي غاضب أو مغتاظ، فإذا قلت "الولد دة كربنِّي" فمعني ذلك أنه أغضبك غضباً شديداً. ولعل الكلمة مشتقة من الكربون الذي يتراكم في كربريتر السيارة فيتدهور حالها ويصعب التفاهم معها.

وأنا بعد يا أخي مغيرة أدهشتني قدرتك على احتلاب ضرع اللغة واستخراج الحليب منه ثم تحويله إلى زبادي وقشطة ولبنة وحليب كامل وخفيف الدسم، بارك الله لك وفيك وآمل أن نلتقي.